هذا الموضوع يشغلني منذ فترة طويلة وكلما شرعت في الكتابة فيه وجدتني أتراجع في آخر وقت لحساسية الموضوع من جوانب عديدة منها الاجتماعي والسياسي وأهمها وأخطرها الجانب الديني ، كما أن له أبعاد خارجية لا يعلم مداها إلا الله .
فليس خافيًا علي أحد ما يحدث من فتن بين طرفي نسيج الوطن تؤدي إلى مشادات ومصادمات واضطرابات بين الحين والآخر وفي أماكن مختلفة ، وفي كل مرة تكون أعمق من سابقتها ويتم السيطرة عليها , تارة بمساعي جادة لشخصيات محترمة ووساطات لحكماء من الطرفين تعمل على تطييب الخواطر والتصالح ، وتارة أخرى بتقديم تنازلات أو تحقيق مكاسب ضيقة لطرف على حساب الآخر ، وفي مرات عديدة يأتي التدخل الأمني كحل آخير ، وهذه الأحداث تتخذ كذريعة من قبل القوى الخارجية للتدخل في الشأن الداخلي بما يخدم مصالحهم ودون مراعاة لظروفنا ومصالحنا , والسبب جاهز ومعلن وهو حماية الأقلية القبطية من اضطهاد الأكثرية المسلمة .
ولهذه الأسباب كنت أجد الوقت غير مناسب والأمر يحتاج إلى مزيد من التريث والحكمة لأن الكتابة إن لم تكن صادقة وحيادية وتهدف إلى تقديم علاج حقيقي ودائم ستنقلب إلى مادة للجدال ونوع من التحيز الذي يزيد المشكلة تعقيداّ وهذا غير مقبول بالمرة .
ولكن الأمر العجيب أن الأسباب المانعة من الكتابة هي ذات الأسباب الدافعة لها ، فليس من المنطق أو الحكمة أن يرى أي عاقل من أبناء هذا الوطن الغالي الذي نعشقه جميعًا ما يحدث ويكتفي بالمشاهدة والاندهاش ويقف عاجزًا أمام هذه الأحداث التي لا خير فيها لأحد على الإطلاق .
لذا وجدت أنه من الواجب الكتابة في هذا الموضوع وبمنتهى الصراحة والوضوح في إظهار الحق لكافة الأطراف لأنها الطريقة الوحيدة الصحيحة لوضع الأمور في نصابها بما يحسم موضوع المواطنة للقضاء على أسباب الفتنة الطائفية ، ولإغلاق المنافذ أمام التدخلات الخارجية بدعاوي ظاهرها البراءة والرحمة وباطنها تدمير وطننا الحبيب .
المسلمون والمسيحيون في مصر أقباط
إن المسلمين والمسيحيين في مصر أقباط ، نعم أعني ما هو مكتوب أيها القارئ الكريم وأن ما قرأته ليس خطئًا في الكتابة ولا ذلة قلم , ولكنها الحقيقة التاريخية الساطعة التي لا مراء ولا مجاملة فيها لأحد .
فالأقباط كلمة يونانية الأصل تعني سكان وادي النيل من المصريين الوثنيين , وبالتالي لم يكن للمعتقد الديني أثر على ذلك الاستخدام ، ومن هذا الاسم اشتق العرب قبل الإسلام اسم قباطي للدلالة على نوع من النسيج الفاخر كان يصنع في مصر وبه كانت تكسى الكعبة في مكة منذ ما قبل الإسلام .
ويذكر التاريخ أيضًا أنه في عهد البطالمة اليونانيين تم ظلم الأقباط ” المصريين ” ومنعهم من حكم بلدهم واستخدامهم كجنود وعمال فقط ، وبعد دخول الرومان مصر رحب بهم المصريون لتخليصهم من الحكم البطلمي ، ولكن الرومان اضطهدوا الأقباط ، فاعتنق كثير من القبط الديانة المسيحية ” بسبب عداء المسيحية الشديد للرومان في ذلك الوقت ” . واعتبر الرومان الأقباط المسيحيين درجة ثانية فسخروهم في الوظائف المهينة وألبسوهم السلاسل الثقيلة مما أدى إلى ظهور معظم أجسامهم باللون الأزرق نتيجة تلك السلاسل حتى عرفوا بأصحاب العظمة الزرقاء , هذا إلى جانب تخريب الأديرة واالكنائس في الوجه البحري والصعيد وتشريد آلاف العائلات المسيحية في جميع أنحاء القطر المصري .
وبعد دخول البيزنطيين المسيحيين مصر بدأ القبط بناء الأديرة في الأسكندرية وظهر العديد من الرهبان القبط المشهورين وتم ترك مساحة لهم من قبل البيزنطيين ، بينما اضطهدوا المصريين الذين كانوا يدينون بالوثنية واليهودية وقتها ، ولكن تم منع القبط من الحكم تمامًا واتخاذ حكام رومان ، واستمر اضطهاد المصريين واستخدامهم كعمال فقط ، ورفض المصريون العمل في الجيش البيزنطي .
إلى أن قدم المسلمون بقيادة عمرو بن العاص لجهاد البيزنطيين وساعد الأقباط المسيحيون المسلمين في حربهم ضد البيزنطيين وتم بالفعل طرد آخر جندي بيزنطي من مصر ، وبعد الفتح الإسلامي لمصر أشهر الكثير من الأقباط إسلامهم ، ومع مرور الزمن انحصر استخدام لفظ أقباط في الإشارة إلى المسيحيين من أبناء مصر دون المسلمين .
فالأقباط من المسلمين والمسيحيين في مصر ليس بينهم تمييز عرقي ولا عنصري لأنهم أقارب وأصهار وينحدرون من أصل واحد وهذه هي الحقيقة الأولى .
مصطلح الأقلية القبطية مرفوض من المسلمين والمسيحيين
كثيراً ما يستخدم مصطلح الأقلية القبطية للتعبير عن الأقباط المسيحيين من المصريين ، واستخدام مصطلح الأقلية ليس المقصود به التعبير عن الأقلية العددية بمعناها اللغوي المقابل للأكثرية العددية دونما أي مفاضلة أو تمييز بسبب هذه الكثرة أو القلة في الأعداد ، ولكن الأقلية مصطلح وافد من مفاهيم الحضارة الغربية في العصر الحديث وهو محمل بمعاني ” العرقية ، العنصرية ، الإثنية ” .
فحينما عجز الغرب عن توجيه تهمة التمييز العرقي أو العنصري للأقباط من المسلمين ضد أخوانهم الأقباط من المسيحيين ، لجأوا إلى مصطلح الأقلية ليتهموهم بمعاداة ثقافة الأقلية ” الإثنية ” وبهذا المفهوم الغربي فالأقلية ليست مجرد أقلية عددية أو سياسية ، وإنما هي أقلية لها هوية ثقافية مختلفة عن الهوية الثقافية لأغلبية المجتمع الذي تعيش فيه ، وهويتها الثقافية تتطور في اتجاه متميز أو مختلف عن هوية غالبية المجتمع ، وبهذا المفهوم يمكن للغرب التدخل في شئوننا بزعم الحفاظ على الثقافات المختلفة للأقليات .
والمسلمون يرفضون أن يطلق هذا المصطلح على أقباط مصر من المسيحيين ، وكذلك يرفض أقباط مصر من المسيحيين إطلاق مصطلح ” الأقلية ” بالمفهوم الغربي عليهم , لأن هويتهم الثقافية والقومية والحضارية والأصول العرقية هي ذاتها هوية الأغلبية المسلمة وأصولها .
وقد عبر ” الأنبا موسى ” أسقف الشباب بالكنيسة الأرثوذكسية المصرية بصدق عن عدم صحة استخدام هذا المصطلح بمفهومه الغربي للتعبير عن الأقلية العددية للأقباط المسيحيين من المصريين فقال
” نحن كأقباط لا نشعر أننا أقلية ، لأنه ليس بيننا وبين إخواننا من المسلمين فرق عرقي إثنى لأننا مصريون ، يجري فينا دم واحد من أيام الفراعنة ، ومن جهة الهوية العربية فنحن نحيا العربية لأنها هويتنا الثقافية ، والثقافة الإسلامية هي السائدة الآن وأي قبطي يحمل في الكثير من حديثه تعبيرات إسلامية يتحدث بها ببساطة دون شعور بأنها دخيلة بل هي جزء من مكوناته ، نحن أقلية عددية فقط ، وهذا لا يجعلنا نشعر أن هناك شرخًا بيننا وبين إخواننا المسلمين ، كما أننا لا نشعر بشعور الأقلية البغيض الذي يعاني منه غيرنا “ .
فالأقباط ” المصريون ” المسلمون والمسيحيون ثقافتهم واحدة ولا وجود للتمييز الإثنى من الأكثرية العددية من الأقباط المسلميين ضد الأقلية العددية من الأقباط المسيحيين وهذه هي الحقيقة الثانية .
المسلمين والمسيحيين دينهم واحد وشريعتهم مختلفة
إن المسلمون يؤمنون بأنه ما من مصنوع إلا ويخضع ويستسلم لأوامر صانعه ، والدين هو التعاليم والأوامر الصادرة من الخالق إلى عباده , وأن الموقف الراشد للإنسان هو أن يستسلم ويخضع لربه وخالقه , ويؤمنون أيضاً أن هذا الدين اسمه الإسلام , وأنه دين جميع الرسل منذ خلق الله أبينا آدم حتى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مصداقاً لقول ربنا
{ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ } آل عمران 19 .
ـ فأول الرسل نوح عليه السلام يقول لقومه { وَأُمِرْتُ لأنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ
} الزمر 12 .
ـ وهذا أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام قبل أن يخلق الله اليهود والنصارى يخبرنا الله عن دينه فيقول
{ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
} آل عمران 67 .
ـ ونبي الله يعقوب عليه السلام يوصي أبناءه وقت احتضاره كما قال تعالى
{ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ
} البقرة 132 .
ـ وعلم الرسل أتباعهم أن الدين الذي بعثوا به هو دين الإسلام فها هم سحرة فرعون بعد إيمانهم بالله وبموسى وهارون عليهما السلام يقولون لفرعون كما قال تعالى
{ وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ
} الأعراف 126 .
ـ وأعلن الحواريون لعيسى عليه السلام أن دينهم الإسلام كما قال تعالى عنهم
{ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمونَُ
} آل عمران 52 .
ـ وهذا أمر الله لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم بأن يخاطب من سبقوه من أهل الكتاب عن حقيقة دينه في قوله تعالى
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ
} آل عمران 64 .
فالله سبحانه وتعالى شمل البشرية بالهداية فجعل لكل قوم هاد قال تعالى
{ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ
} الرعد 7 .
ولا يكتمل إيمان المسلم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا إذا آمن بجميع رسل الله وبما أنزل الله من كتب على رسله كما جاء في قوله تعالى
{ قُولُواْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
} البقرة 136 .
وقال صلى الله عليه وسلم ” أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة ، والأنبياء أخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد “ رواه البخاري ومسلم .
ومع وحدة الدين في اسمه وعقائده وأخلاقه إلا أن الله جعل لكل أمة شريعة تناسبهم وكلها بأمره ، قال تعالى
{ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } المائدة 48 .
المسلمون يؤمنون ويعتقدون بأن الله سبحانه وتعالى رب العالمين خالق الإنسانية كلها ، وشاء لها التنوع والاختلاف وهو سنة من سنن الله التي لا تبديل لها ولا تحويل قال تعالى
{ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ
} هود 118 ، 119 .
هذا الإيمان العميق والعقيدة الراسخة عن سنة الله في التنوع والاختلاف نتج عنها فهم وسلوك صحيحين تجاه من يعتقد غير دينهم أو يتبع غير شريعتهم في التعارف والتعايش والاعتراف بالوجود رغم الاختلاف هذا من الناحية النظرية ، أما من الناحية السلوكية فكان العدل والإنصاف لغير المسلمين بصورة لم يعرفها التاريخ من قبل .
فالرومان كانوا يحتكرون السيادة والشرف للجنس الروماني ويرون في الآخرين برابرة لا يستحقون أن يطبق عليهم القانون الروماني ولا حق لهم في التدين بغير دين السادة الرومان وثنيًا كان أم نصرانيًا ملكانياً ففي حقبة وثنية الرومان اضطهدوا اليهود والنصارى وفي حقبة تنصرهم الملكاني اضطهدوا النصرانية الشرقية في مصر والشام .
كذلك اليهودية والنصرانية لا يعترفان بغير إيمانهما مع إنكار ونفي جميع الآخرين قال تعالى
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء اللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
} البقرة 91 .
وقوله تعالى { وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
} البقرة 113 .
مقابل هذا الإنكار للمخالفين في الديانة ينفرد الإسلام والمسلمون بالاعتراف بكل الشرائع والملل وجميع النبوات والرسالات وسائر الكتب والصحف والألواح التي مثلت وحي السماء إلى جميع الأنبياء والمرسلين ، قال تعالى
{ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ
} البقرة 285 .
ورغم أن غير المسلمين لا يعترفون بالإسلام ديناً ولا بمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًا ورسولاً ولا بالقرآن وحيًا منزلاً من الله , يتفرد الإسلام بالإقرار بأن إيمان المسلم لا يكتمل إلا إذا آمن بكل النبوات والرسالات وكتب وشرائع هذه الرسالات ولا يتوقف ذلك على الإيمان اللفظي فقط ، بل يتعداه إلى السلوك العملي بحيث لا يكتمل الإيمان الإسلامي إلا إذا مكن المسلمون أهل تلك الشرائع والملل التي تنكر وتجحد الإسلام من إقامة عقائدهم وتطبيق شريعتهم المخالفة للإسلام فيما بينهم في حرية وأمان .
وفي هذا السياق نذكر رد ” البابا شنودة ” على أحد الأسئلة التي وجهت له حول كيفية تحقيق ما ذكره ”
بطرس الرسول ” من أنه ينبغي أن نخضع لرئاسة الحكام مع الاحتفاظ والمطالبة بالحقوق والديموقراطية , فأجاب قائلاً ” إن الخضوع للحاكم يجب أن يكون في حيز وصايا الله , وأن طاعة الحاكم يجب أن تكون في الأمور المدنية فقط , أما في الأمور الدينية فنحن نخضع للآية التي تقول ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس ” .
و هذا يؤكد على أن الأقباط ” المصريون ” من المسلمين والمسيحيين ليس بينهم تمييز ديني ولن يكون بإذن الله وهذه هي الحقيقة الثالثة .
الصحيفة .. ومعاهدة نصارى نجران .. ومعاهدة عمر بن الخطاب
ولبيان كامل الحقائق للمسلمين والمسيحيين من المصريين حتى لا يزايد أحد على طرفي نسيج الوطن بحقوق المواطنة وحقوق الإنسان وحماية الأقليات أتعرض للدستور والأصوب أعرض الدستور ولا أقصد دستور مصر الذي ينص في فقرته الثانية على أن دين الدولة هو الإسلام ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع ، وإنما دستور دولة الإسلام الأولى دولة النبوة ”
الصحيفة ” ومعاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم لنصارى نجران في المدينة المنورة عقب الهجرة مع بداية قيام الدولة منذ أكثر من 1400 عام قبل أن يعرف العالم الدساتير وحقوق الإنسان ، لينظم الحقوق والواجبات بين مكونات الوطن في ذلك الوقت ليكون نبراسًا يسترشد به الخلفاء من بعده والمسلمون حكامًا ومحكومين على مر الزمان في بيان حقوق المواطنة ” أهل الذمة ” وحقوق الإنسان وحماية الأقليات .
كما أعرض معاهدة عمر بن الخطاب ثاني الخلفاء الراشدين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهل ” إيليا ” بيت المقدس التي توضح سيره على نفس منهج النبوة .
وليس الغرض من العرض بيان سمو ورقي الإسلام وسماحته فحسب ولكن ليعرف المسلمون ما عليهم من حقوق وواجبات لغيرهم من أهل الملل والشرائع المخالفة للإسلام أينما كانوا وبالأخص لمن هم شركاءهم في الوطن , فيؤدوا لهم حقوقهم كاملة غير منقوصة طواعية وعن طيب نفس امتثالاً لأمر دينهم واتباعًا لسنة نبيهم وحفاظًا على عهده وذمته لغير المسلمين .
والغرض الآخر من العرض هو أن يعرف غير المسلمين من أهل الملل والشرائع المخالفة للإسلام حقوقهم فيطالبون بها كاملة حقًا مشروعًا لهم من الله ورسوله وديانة من المسلمين حكامًا ومحكومين لا منة ولا فضل في حصولهم عليها لأحد من المسلمين ، وبالمقابل يعرفون ما عليهم من واجبات مقابل تلك الحقوق فيلتزموا بها لتسير سفينة الوطن في هدوء وأمن وأمان .
الدستور ” الصحيفة ” سنة 1 هجرية 622 م
لأن الإسلام دين ودولة وشريعة ومجتمع ودنيا وآخرة وفرد وأمة وعلاقات وارتباطات ومواثيق ومعاهدات ومصالح مع الآخرين فكان لابد من ميثاق ينظم هذا الواقع بما فيه من اختلافات هي سنة كونية لا ينكرها إلا معاند ، فكانت الصحيفة أول دستور يضعه الرسول صلى الله عليه وسلم ليضبط إيقاع التعامل الجماعي لدى المواطنين من أهل المدينة على اختلاف معتقداتهم فنص هذا الدستور على أن
” يهود أمة مع المؤمنين ، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم .. ومن تبعنا من يهود فإن لهم النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم .. وأن بطانة يهود ومواليهم كأنفسهم .. وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة وأن بينهم النصح والنصيحة والبر المحض من أهل هذه الصحيفة دون الإثم .. وأنه لا يأثم امرؤ بحليفه وأن النصر للمظلوم .. وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم .. وأنه ما كان من أهل هذه الصحيفة من حدث يخاف فساده ، فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله ، وأن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره .. لا يكسب كاسب إلا على نفسه ، وأن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره .. وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم وأنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة إلا من ظلم وأثم “ .
ويتضح من هذه الصحيفة أن الدولة في ظل المرجعية الإسلامية تقر بحق غير المسلمين في حرية الاعتقاد لأنه حق أصيل كفله الخالق سبحانه وتعالى لعباده في قوله
{ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
} البقرة 256 .
وسعة المرجعية الإسلامية وإقرارها عدم الإكراه في الدين يعكس مدى الحرص على وحدة الوطن فليس هناك ما يدعو للعداء بين مواطنين بسبب الدين أو العرق ، ومع إزالة أسباب الخلاف فإن الأمر لا يخلو من نزغات شياطين الإنس والجن للوقيعة بين أبناء الوطن الواحد , فإن حدث ذلك فقد نص هذا الدستور على أن المرجعية التي يتم الاحتكام إليها لمنع هذا الحدث أو الشجار الذي يخشى معه الفساد يكون مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله .
معاهدة نصارى نجران
الصحيفة أسست للعلاقة بين المسلمين واليهود الذين يسكنون معهم المدينة ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم حرص على تأسيس العلاقة مع باقي عناصر الدولة لتتحقق المساواة بين جميع المواطنين في الدولة الواحدة فكتب صلى الله عليه وسلم لنصارى نجران ولكل المتدينين بالنصرانية ميثاق عهد يحتوي على مجموعة من المبادئ الدستورية صالحة للممارسة والتطبيق في كل زمان ومكان بين المسلمين والنصارى بل ويحتذى بها في المواثيق الدولية الحديثة
وهذا نصها :
"بسم الله الرحمن الرحيم ,
هذا ما كتب محمد النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل نجران : إذ كان عليهم حكمه في كل ثمرة ، وفي كل صفراء وبيضاء ورقيق ، فأفضل ذلك عليهم ، وترك ذلك كله لهم ، على ألفي حلة من حلل الأواقي ، في كل رجب ألف حلة ، وفي كل صفر ألف حلة ، مع كل حلة أوقية من الفضة . فما زادت على الخراج ، أو نقصت على الأواقي فبالحساب . وما قضوا من دروع ، أو خيل ، أو ركاب ، أو عروض أخذ منهم بالحساب . وعلى نجران مؤنة رسلي ، ومتعتهم ، ما بين عشرين يومًا فما دون ذلك ، ولا تحبس فوق شهر .
وعليهم عارية ، ثلاثين درعًا ، وثلاثين فرسًا ، وثلاثين بعيرًا ، إذا كان كيد باليمن ومعرة . وما هلك مما أعاروا رسلي ، من دروع ، أو خيل ، أو ركب ، أو عروض ، فهو ضمين على رسلي ، حتى يؤدوه إليهم .
ولنجران وحاشيتها ، جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله ، على أموالهم ، وأنفسهم ، وملتهم ، وغائبهم ، وشاهدهم ، وعشيرتهم ، وبيعهم ، وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير ، لا يغير أسقف من أسقفيته ، ولا راهب من رهبانيته ولا كاهن من كهانته . وليس عليهم دنية ، ولا دم جاهلية ، ولا يُحشرون ، ولا يُعشرون ، ولا يطأ أرضهم جيش . ومن سأل منهم حقًا ، فبينهم النصف غير ظالمين ولا مظلومين .
ومن أكل ربا من ذي قبل ، فذمتي منه بريئة ، ولا يؤخذ رجل منهم بظلم آخر .
وعلى ما في هذا الكتاب جوار الله ، وذمة محمد النبي رسول الله ، حتى يأتي الله بأمره ، ما نصحوا وأصلحوا ما عليهم ، غير مثقلين بظلم .."
شهد أبو سفيان بن حرب ، وغيلان بن عمرو ، ومالك بن عوف من بني النضر ، والأقرع بن حابس الحنظلي ، والمغيرة بن شعبة .
وكتب لهم هذا الكتاب ، عبد الله بن أبي بكر .
” وهناك وثيقة أخرى كتبها الرسول صلى الله عليه وسلم للسيد بن الحارث بن كعب ولأهل ملته ولجميع من ينتحل دعوة النصرانية في شرق الأرض وغربها قريبها وبعيدها ، فصيحها وأعجمها ، معروفها ومجهولها ، كتابًا لهم عهدًا مرعيًا ، وسجلاً منشورًا ، سنة منه وعدلاً ، وذمة محفوظة من رعاها كان بالإسلام متمسكًا ، ومن ضيعها ونكث العهد الذي فيها وخالفه إلى غيره وتعدى فيه ما أمرت ، كان لعهد الله ناكثًا ، ولميثاقه ناقضًا ، وبذمته مستهينًا ، وللفتنة مستوجًا ، سلطانًا كان أو غيره … أن أحفظ أقاصيهم في ثغوري بخيلي ورجلي وسلاحي وقوتي وأتباعي من المسلمين في كل ناحية من نواحي العدو بعيدًا كان أو قريبًا ، سلمًا كان أو حربًا ، وأن أحمي جانبهم وأذب عنهم ، وعن كنائسهم وبيعهم وبيوت صلواتهم ، ومواضع الرهبان ، ومواطن السياح ، وأن أحرس دينهم وملتهم أين كانوا ، من بر وبحر ، شرقًا وغربًا ، بما أحفظ به نفسي وخاصتي ، وأهل الإسلام من ملتي .
ولا تغيير أسقف عن أسقفيته ، ولا راهب عن رهبانيته ، ولا هدم بيت من بيوت بيعهم ، ولا إدخال شيء من بنائهم في شيء من أبنية المساجد ولا منازل المسلمين ، فمن فعل ذلك فقد نكث عهد الله وخالف رسوله ” .
وهذا الميثاق تعدى ضمان حرية الاختلاف في المعتقد الديني وحرية إقامة هذا المعتقد المخالف للإسلام إلى احترام الوجود المؤسسي لهذا التنوع والاختلاف بعدم التدخل في اختيارهم لأساقفتهم ورهبانهم , والحفاظ على أماكن عباداتهم فلا تهدم أو يستولى عليها لأي سبب .
الجزية بديل الجندية وليست بديل الديانة
وجاء في الوثيقة أيضًا ” وأن لا يحمل الرهبان والأساقفة ، ولا من تعبد منهم ، أو لبس الصوف ، أو توحد في الجبال والمواضع المعتزلة من الأمصار شيئًا من الجزية أو الخراج ، وأن يقتصر على غيرهم من النصارى ، ممن ليس بمتعبد ولا راهب ولا سائح على أربعة دراهم في كل سنة أو ثوب حبره ”
.
فالجزية لا تؤخذ إلا من القادرين ماليًا الذين يستطيعون حمل السلاح وأداء ضريبة الدفاع عن الوطن فالجزية بدل للجندية وليست بدل الديانة ، بدليل أن الذين حاربوا مع المسلمين ضد الفرس والروم من غير المسلمين في الشام والعراق ومصر لم تفرض عليهم الجزية ، وإنما اقتسموا مع المسلمين الغنائم على قدم المساواة .
والجزية ليست وسيلة ضغط على غير المسلمين لتغيير ديانتهم كما يزعم ويروج أعداء المسلمين ليوقعوا العداوة والبغضاء بين أبناء الوطن الواحد من المسلمين والمسيحيين , ويدل على ذلك أنها لم تفرض على الرهبان ورجال الدين ، الأمر الأخير أن مقدارها أربعة دراهم في كل سنة أو ثوب وهو مايساوي مائة جنيه تقريباً في وقتنا الحالي , وهذا المقدار بسيط جدًا إذا قورن بالضرائب التي تفرضها الدولة الحديثة على رعاياها , وليس من المعقول أن يكون هذا القدر البسيط من المال يمثل ضغط على غير المسلمين لتغيير ديانتهم .
وجاء فيها ” ولا خراج ولا جزية إلا على من يكون في يده ميراث من ميراث الأرض ، ممن يجب عليه فيه للسلطان حق ، فيؤدي ذلك على ما يؤديه مثله ، ولا يجار عليه ، ولا يحمل منه إلا قدر طاقته وقوته على عمل الأرض وعمارتها وإقبال ثمرتها ، ولا يكلف شططًا ، ولا يتجاوز به حد أصحاب الخراج من نظرائه ، ولا يكلف أحد من أهل الذمة منهم الخروج مع المسلمين إلى عدوهم ، لملاقاة الحروب ومكاشفة الأقران ، فإنه ليس على أهل الذمة مباشرة القتال ، وإنما أعطوا الذمة علىّ ، على أن لا يكلفوا ذلك ، وأن يكون المسلمون ذبابًا عنهم وجوارًا من دونهم ، ولا يكرهوا على تجهيز أحد من المسلمين إلى الحرب الذي يلقون فيه عدوهم ، بقوة وسلاح أو خيل ، إلا أن يتبرعوا من تلقاء أنفسهم ، فيكون من فعل ذلك منهمم وتبرع به ، حمد عليه وعرف له وكوفئ به “ .
وهذا يدل على العدل والمساواة بين أبناء الوطن على اختلاف المعتقدات الدينية في تحمل أعباء الدولة المالية .
وجاء في الوثيقة ” ولا يُجبر أحد ممن كان على ملة النصرانية كرهًا على الإسلام ، ولا تجادلوا أهل ] الكتاب [ إلا بالتي هي أحسن . ويخفض لهم جناح الرحمة ويُكف عنهم أذى المكروه حيث كانوا ، وأين كانوا من البلاد ”
.
جاء هذا النص بعد الحديث عن الجزية ليؤكد على حرية المعتقد , وينهي المسلمين صراحة عن إجبار أو إكراه النصارى على تغيير ديانتهم للإسلام , ولينفي الشبهة الملصقة بالجزية من أنها وسيلة عقوبة على عدم الإيمان بالإسلام , ويؤكد على حقيقة أن الجزية تمثل مساهمة النصارى في تحمل الأعباء المالية للدولة .
ونصت الوثيقة على ” وإن أجرم أحد من أو جنى جناية ، فعلى المسلمين نصره ، والمنع والذب عنه ، والغرم عن جريرته والدخول في الصلح بينه وبين من جنى عليه ، فإما من عليه ، أو يفادي به . ولا يرفضوا ولا يخذلوا ولا يرتكبوا هملاً ، لأني أعطيتهم عهد الله على أن لهم ما للمسلمين ، وعليهم ما على المسلمين . وعلى المسلمين ما عليهم بالعهد الذي استوجبوا حق الذمام ، والذب عن الحرمة ، واستوجبوا أن يذب عنهم كل مكروه ، حتى يكونوا للمسلمين شركاء فيما لهم وفيما عليهم “ .
في هذا الإطار علينا أن نذكر كلمات ” البابا شنودة ” بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية التي قال فيها : إن الأقباط في ظل حكم الشريعة الإسلامية يكونون أسعد حالاً وأكثر أمنًا ولقد كانوا في الماضي حينما كان حكم الشريعة هو السائد … نحن نتوق إلى أن نعيش في ظل ” لهم ما لنا وعليهم ما علينا ” ، إن مصر تجلب القوانين من الخارج حتى الآن وتطبقها علينا ونحن ليس عندنا ما في الإسلام من قوانين مفصلة فكيف نرضى بالقوانين المجلوبة ، ولا نرضى بقوانين الإسلام ؟ .
وجاء في الوثيقة ” ولا يُحملوا من النكاح شططًا لا يريدونه ولا يُكره أهل البنت على تزويج المسلمين ، ولا يضاروا في ذلك إن منعوا خاطبًا وأبوا تزويجًا ، لأن ذلك لا يكون إلا بطيبة قلوبهم ، ومسامحة أهوائهم إن أحبوه ورضوا به . وإذا صارت النصرانية عند المسلم ، فعليه أن يرضى بنصرانيتها ، ويتبع هواها في الاقتداء برؤسائها ، والأخذ بمعالم دينها ، ولا يمنعها ذلك ، فمن خالف ذلك وأكرهها على شيء من أمر دينها ، قد خالف عهد الله وعصى ميثاق رسوله ، وهو عند الله من الكاذبين “ .
وهذا النص يبيح للمسلم أن يتزوج النصرانية وهذا الزواج يدخل ذويها من غير المسلمين في دائرة أولي الأرحام عند المسلمين وتلك قمة التلاحم والاندماج وهذا لا يتأتى إلا بموافقة أولياء البنت على تزويجها لمسلم .
فإذا تزوجها المسلم وصارت عنده فعليه أن يرضى بنصرانيتها ويحترم عقيدتها وتدينها ولا يمنعها من ممارسة شعائر دينها لأن الإسلام لا يرضى أن يكون الزواج سببًا في الشقاق الاجتماعي ، وإن خالف وأكرهها على شيء من أمر دينها فقد خالف عهد الله وعصى ميثاق رسوله وكان عند الله من الكاذبين .
وهنا نذكر كلمة ” البابا شنودة ” التي يرحب فيها بالحلول الإسلامية التي يقدمها الفقه الإسلامي لمشكلات الأسرة المسيحية ومنها قانون الخلع فقال
” رغم معارضات متعصبة ترفض الخلع لا لشيء إلا لمصدره الإسلامي إن الخلع مبدأ موجود منذ القدم في الشريعة الإسلامية ولم يكن عديد من الناس على معرفة به … وبمقتضى مبدأ الخلع من حق المرأة أن تطلب الانفصال عن زوجها لأسباب تبينها للمحكمة منها استحالة الحياة الزوجية بينهما وإذا كان قانون الخلع يسمح للمرأة المسلمة بأن تستفيد من هذا الوضع فما المانع من أن تستفيد منه المرأة المسيحية “ .
وجاء في الوثيقة أيضًا ” ولهم إن احتاجوا في مرمة بيعهم وصوامعهم أو شيء من مصالح أمورهم ودينهم ، إلى رفد من المسلمين وتقوية لهم على مرمتها ، أن يرفدوا على ذلك ويعاونوا ، ولا يكون ذلك دينًا عليهم ، بل تقوية لهم على مصلحة دينهم ، ووفاء بعهد رسول الله موهبة لهم ، ومنة لله ورسوله عليهم “ .
وهذا النص يعتبر غير المسلمين جزء أصيل في الوطن الواحد ، وأن واجب الدولة حيال دور عبادتهم هي ذاتها واجباتها حيال مساجد المسلمين ، فلا يقتصر واجب الدولة على السماح ببناء دور العبادة وإنما يمتد للإعانة على بنائها .
وجاء في الوثيقة ” ولهم أن لا يلزم أحد منهم أن يكون في الحرب بين المسلمين وعدوهم ، رسولاً أو دليلاً أو عونًا أو متخبرًا ولا شيئًا مما يساس به الحرب ، فمن فعل ذلك بأحد منهم كان ظالمًا لله ولرسوله عاصيًا ، ومن ذمته متخليًا . ولا يسعه في إيمانه إلا الوفاء بهذه الشرائط التي شرطها محمد بن عبد الله ، رسول الله لأهل ملة النصرانية “ .
وهذا النص يعد استكمالاً لعدم تكليفهم الخروج مع المسلمين إلى عدوهم لملاقاة الحروب ، وهنا يمتد الأمر إلى عدم استخدام أحد منهم البتة حتى لو كان رسولاً بين المسلمين وعدوهم أو دليلاً أو عونًا حتى لا يتعرض أي منهم لأدنى أذى ، فهل توصلت الدول المتحضرة في عصرنا الحديث لمثل هذا الرقي في التعامل مع المخالفين في الاعتقاد .
ولأن الوثيقة تعتبر غير المسلمين جزء أصيل في الوطن الواحد فيكون الواجب عليهم الانتماء والولاء الخالص لهذا الوطن والحفاظ على هويته وحضارته وأمنه القومي وجاء في الوثيقة ما يعبر عن ذلك
” واشترط عليهم أمورًا يجب عليهم في دينهم التمسك والوفاء بما عاهدهم عليه , منها : ألا يكون أحد منهم عينًا ولا رقيبًا لأحد من أهل الحرب على أحد من المسلمين في سره وعلانيته ، ولا يأوي منازلهم عدو للمسلمين ، يريدون به أخذ الفرصة وانتهاز الوثبة ، ولا ينزلوا أوطانهم ولا ضياعهم ولا في شيء من مساكن عباداتهم ولا غيرهم من أهل الملة ، ولا يرفدوا أحدًا من أهل الحرب على المسلمين ، بتقوية لهم بسلاح ولا خيل ولا رجال ولا غيرهم ، ولا يصانعوهم ، وأن يقروا من نزل عليهم من المسلمين ثلاثة أيام بلياليها في أنفسهم ودوابهم ، حيث كانوا وحيث مالوا ، يبذلون لهم القرى الذي منه يأكلون ، ولا يكلفوا سوى ذلك ، فيحملوا الأذى عليهم والمكروه . وإن احتيج إلى إخفاء أحد من المسلمين عندهم وعند منازلهم ومواطن عباداتهم أن يؤوهم ويرفدوهم ويواسوهم فيما يعيشوا به ما كانوا مجتمعين ، وأن يكتموا عليهم ، ولا يظهروا العدو على عوراتهم ، ولا يخلوا شيئًا من الواجب عليهم .
فمن نكث شيئًا من هذه الشرائط وتعداها إلى غيرها فقد برئ من ذمة الله وذمة رسوله . وعليهم العهود والمواثيق التي أخذت عن الرهبان وأخذتها ، وما أخذ كل نبي على أمته من الأمان والوفاء لهم وحفظهم به ، ولا ينقض ذلك ولا يغير حتى تقوم الساعة إن شاء الله “ .
ويزيد من سمو هذا الإنجاز الإسلامي تعميم هذه المبادئ على الديانات الوضعية أيضًا ، فلم يقف الإسلام عند ضبط العلاقة مع اليهود أهل التوراة والنصارى أهل الإنجيل وإنما عمومًا لتشمل المجوس والهندوس والبوذيين وذلك لقول عبد الرحمن بن عوف أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال “ سنوا فيهم سنة أهل الكتاب “ .
معاهدة عمر بن الخطاب مع أهل بيت المقدس
بسم الله الرحمن الرحيم ,
هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيليا من الأمان :
أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم ، ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها أنه لا تُسكن كنائسها ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حيزها ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم ولا يسكن بإيليا معهم أحد من اليهود .
وعلى أهل إيليا أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص ، فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم ، ومن أقام منهم فهو آمن وعليه مثل ما على أهل إيليا من الجزية ومن أحب من أهل إيليا أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بيعهم وصلبهم فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم حتى يبلغوا مأمنهم . ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان ، فمن شاء منهم قعد وعليه مثل ما على أهل إيليا من الجزية ,من شاء سار مع الروم ، ومن شاء رجع إلى أهله فإنه لا يؤخذ منه شيء حتى يحصد حصادهم .
وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية .
شهد على ذلك خالد بن الوليد ، وعمرو بن العاص ، وعبد الرحمن بن عوف ، ومعاوية بن أبي سفيان ، وكُتب وحُضر سنة خمس عشرة .
الواقع يخالف المثال
إن مصر قبل الفتح الإسلامي كانت تعاني من الاضطهاد الديني للنصارى سواء كان في عهد الوثنية الرومانية أو في عهد النصرانية الرومانية ، بلغ من البشاعة أن يسمى عصر الشهداء ، وانسحبت النصرانية المصرية وأهلها من الحياة المدنية إلى المغارات والكهوف في الصحراء وكان البطرك بنيامين في مقدمة الذين فروا إلى الصحراء ، فاختفى فيها ثلاثة عشر عامًا .
فلما جاء الفتح الإسلامي أمن عمر بن العاص البطرك بنيامين واستدعاه واستقبله وأكرمه وأعاده إلى كرسي كنيسته معززًا , واستعاد الإسلام الكنائس المصرية من الاحتلال البيزنطي و المذهب الملكاني الروماني لهذه الكنائس ، لا ليجعلها مساجد إسلامية ، وإنما ليعيدها إلى نصارى مصر مرة أخرى ، حتى اعتبر فقهاء الإسلام ومنهم الليث بن سعد أن جميع كنائس مصر قد حدثت في ظل دولة الإسلام لأن أقباط مصر لم تكن لهم كنائس حتى حررهم وحرر نصرانيتهم الإسلام .
إذا كانت علاقة المسلمين بالنصارى في الماضي مشرقة إلى هذا الحد الذي لم يشهد له التاريخ مثيلاً من التسامح وعدم الإكراه في الدين ، مما جعل البطرك ” عيثو يابه ” يقول ” إن العرب الذين مكنهم الرب من السيطرة على العالم يعاملوننا كما تعرفون , إنهم ليسوا بأعداء للنصرانية , بل يمتدحون ملتنا , ويوقرون قسيسينا وقديسينا ويمدون يد المعونة إلى كنائسنا وأديرتنا ” , ودفع المستشرق ” مونتيه ” ليقول ” لقد أقبل الناس على الإسلام الذي رأوه عقلاني الجوهر بأوسع معاني الكلمة ، أقبلوا عليه دون أية محاولة للإرغام والاضطهاد كما يقول ” أرنولد ” .
و ” السير توماس أرنولد ” المستشرق الإنجليزي شديد التدين بالنصرانية يقول ” إن غير المسلمين قد نعموا بوجه الإجمال في ظل الحكم الإسلامي ، بدرجة من التسامح لا تجد لها معادلاً في أوروبا قبل الأزمنة الحديثة ، وإن دوام الطوائف المسيحية في وسط إسلامي يدل على أن الاضطهادات التي قاست منها بين الحين والآخر على أيدي المتزمتين والمتعصبين كانت من صنع الظروف المحلية ، أكثر مما كانت عاقبة مبادئ التعصب وعدم التسامح ” . فما هي الأسباب والظروف المحلية الطارئة التي تعكر صفو العلاقة بين الطرفين ؟
الأسباب الطارئة للتوتر بين المسلمين والنصارى في واقعنا المعاصر
من سنن الله أن يكون هناك دائمًا فارق بين الواقع وبين المثال ، وأن يظل المثال عصيًا على كمال التحقق في الواقع المعيشي ، ويكون ذلك نتيجة أسباب داخلية وخارجية وافدة على الموقف الإسلامي الثابت والأصيل المتمثل في التسامح وعدم الإكراه في الدين ، ليتحول إلى التضييق والتمييز والأذى بصورة عارضة وعابرة على عكس المنهاج الطبيعي للتطبيقات الإسلامية .
وتتلخص الأسباب الطارئة على المنهج الإسلامي في :
السبب الأول : عدم التزام المسلمين بالمنهج الإسلامي في حياتهم ومن ضمن هذا المنهج حقوق ” أهل الذمة ” غير المسلمين في بلاد الإسلام .
المقصود هنا بعدم التزام المسلمين بالمنهج الإسلامي في حياتهم هو بعدهم عن تطبيق ما جاء في دينهم وسنة نبيهم من أوامر تنظيم العلاقة بينهم وبين بعضهم ، وبينهم وبين أهل الكتاب ، وبينهم وبين الناس جميعًا وهذه الأوامر تتعلق :
بالعدل { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
} المائدة 8 .
وعدم الظلم فقد جاء في الحديث القدسي الذي يرويه عليه الصلاة والسلام عن ربه
” يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا “ .
والإحسان إلى الناس جميعًا في القول والعمل { وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا
} البقرة 83 .
والبر بالمسالمين { لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ
} الممتحنة 8 .
والوفاء بالعهود { وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ
} المؤمنون 8 .
وإذا حدث جدال أن يكون بالحسنى { وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
} العنكبوت 46 .
وإن حدث خطأ يكون الصفح { وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
} المائدة 13 .
ومن خالف هذه الأوامر وآذى ذميًا فقد توعده رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ” من آذى ذميًا فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ” .
وقال صلى الله عليه وسلم ” من آذى ذميًا فأنا خصمه ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة “
وقال صلى الله عليه وسلم ” من ظلم معاهدًا أو انتقصه حقًا أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس منه فأنا حجيجه يوم القيامة ” .
ما ذكر غيض من فيض ولكن بعد المسلمين عن الالتزام بتطبيق المنهج الإسلامي في تعاملاتهم مع أهل الذمة على وجه الخصوص , يؤدي إلى جعل بعض حكام المسلمين وعامتهم يضيقون ببعض الحقوق الطبيعية المشروعة لغير المسلمين مثل الحصول على تصاريح بناء دور عبادة ، بينما المنهج الإسلامي الأصيل يحض الدولة على إعانتهم في بنائها وفق قاعدة ” لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين ” .
السبب الثاني : موقف غير المسلمين أنفسهم من الحكم الإسلامي حتى عندما يعاملهم بأكبر قدر من التسامح ، لتحقيق مكاسب طائفية على حساب الغالبية المسلمة .
وضحنا أن عدم التزام المسلمين بتطبيق المنهج الإسلامي في تعاملاتهم مع أهل الذمة له آثار سلبية على وحدة الوطن وعلى علاقات التسامح بين طرفي نسيج هذا الوطن ، من نفس المنطلق نلقي الضوء على بعض المواقف والتصرفات التي تحدث من بعض غير المسلمين تجاه المسلمين والمنهج الإسلامي وتؤدي إلى تكدير صفو العلاقة بين الطرفين .
مثل الادعاء بعدم المساواة في حقوق المواطنة السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، والزعم بأن العروبة والإسلام وافدان على النصرانية ويجب تحرير النصرانية منهما ، والمطالبة بإلغاء الفقرة الثانية من الدستور التي تنص على أن الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع ، وهذه الادعاءات غير منصفة وتتجاهل مشاعر الأغلبية المسلمة ، وخاصة في ظل التسامح الديني الذي حظي به غير المسلمين بوجه الإجمال في ظل الحكم الإسلامي مما دفع الكثير من المستشرقين مثل ” مونتيه ” و ” السير توماس أرنولد ” يتحدثوا عن هذا التسامح الذي لا مثيل له في أوروبا حتى في عصرنا الحديث.
كذلك عدم التمييز بين المسلمين وغيرهم في النواحي الوظيفية وهو من ثوابت علاقة الإسلام بغير المسلمين في المجتمعات الإسلامية من استمرار غير المسلمين في مواقعهم في دواوين وإدارات الدول قبل تعريب تلك الدواوين وبعد تعريبها مما جعل المستشرق الألماني ” آدم متز” يكتب فيقول ” لقد كان النصارى هم الذين يحكمون بلاد الإسلام ” .
أما في الجانب الاقتصادي فهم مميزون عن المسلمين يعترف بذلك ” الأنبا موسى ” أسقف الشباب في الكنيسة الأرثوذكسية المصرية فيقول ” إن الأقباط جزء هام من نسيج الحياة المصرية .. فهم أطباء وصيادلة ومهندسون ، وغيرها من المهن ، ونسبتهم في رجال الأعمال مرتفعة أكثر من نسبتهم العددية في مصر ” .
ما ذكر قليل من كثير وحصولهم عليه ليس على سبيل المنة أو الهبة من حاكم أو محكوم , وإنما هو حق أصيل لهم في المنهج الإسلامي لأنهم أهل ذمة مواطنون ” لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين ” .
السبب الثالث : مرتبط بالتدخل الخارجي في البلدان الإسلامية من قبل الهيمنة الغربية وفي المقدمة منها ” العولمة الأمريكية ” ، وذلك من خلال المخططات المعلنة لتفتيت الأمة وإعاقة نهوضها وتقدمها وانبعاثها الحضاري ، عن طريق إغراء واستدراج الأقليات الدينية غير المسلمة إلى التعاون معهم ضد الأغلبية المسلمة .
ففي ظل ” العولمة ” أصبح التدخل الخارجي في شئون الدول ذات السيادة أمرًا واقعًا ، ولكن التدخل له أسباب كثيرة ، منها على سبيل المثال لا الحصر غياب الديموقراطيات ، الاضطهاد الديني والعرقي ، حماية الأقليات ، تهديد السلم والأمن العالميين للخطر إلى غير ذلك من الأسباب التي لا تنتهي ، والتي تهدف إلى إضعاف سلطات الدول ذات السيادة لصالح الشركات الكبرى متعددة الجنسيات ، لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية وفرض الهيمنة والثقافة الأمريكية على جميع دول العالم .
وهو أخطر أسباب الاضطراب في العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين في البلاد الإسلامية ، فدول الهيمنة الغربية تريد أن توجد لها موطأ قدم في البلاد الإسلامية ، فتعمل على استدراج واستقطاب الأقليات غير المسلمة عن طريق النفخ في الأوهام ، وتزييف الحقائق ، وسبيلهم إلى ذلك التظاهر بالإخاء الديني ، وهو خدعة لا محل لها لأن التاريخ يذكر أن أقصى ما تعرض له الأقباط من نصارى مصر من ظلم واضطهاد كان على يد نصارى الرومان وذلك لاختلاف المذهب .
وإلى وقتنا الحاضر هذا الإخاء غير موجود ، ولا أدل على ذلك من رفض قساوسة دير ” سانت كاترين ” بسيناء وهم أرثوذكس من أن يصلي بابا الفاتيكان الحبر الأعظم للكاثوليكية ” يوحنا بولس الثاني ” داخل الدير عند زيارته له في فبراير 2000 لأنه في نظرهم غير مؤمن حسب معاييرهم للإيمان . وفي سبتمبر 2000 صدر قرار عن الفاتيكان يعلن أن الكنائس غير الكاثوليكية ليست كنائس بالمعنى الصحيح وأن الخلاص في اليوم الآخر محصور في الكنيسة الكاثوليكية وحدها .
فإذا كان الإخاء بين نصرانية الغرب ونصرانية الشرق غير موجود , يتبادر إلى الذهن سؤال عن الهدف الحقيقي من وراء هذا التدخل الخارجي في بلداننا ؟ وتأتي الإجابة واضحة وصريحة منذ أكثر من 50 عامًا من المستشرق الصهيوني ” برنارد لويس ” الذي يعلن عن مخطط لتفتيت الأمة الإسلامية بواسطة الأقليات والذي نشرته مجلة وزارة الدفاع الأمريكية والذي يدعو فيه إلى إضافة أكثر من ثلاثين كيانًا انفصاليًا على أساس ديني ومذهبي وعرقي ” إثنى ” ، تضاف إلى التجزئة التي أحدثتها اتفاقية ” سيكس بيكو ” سنة 1916 … ويستمر إلى أن يقول فالمطلوب
” هو استخدام الأقليات لتفتيت العالم الإسلامي إلى كيانات ضعيفة لضمان الأمن والتفوق للكيان الصهيوني ، الموظف في خدمة المشروع الامبريالي الغربي الكبير ” ! .
وتنفيذًا لهذا المشروع أفسحوا المجال وشجعوا أقباط المهجر وخاصة في أمريكا وكندا وأستراليا لتكوين ” الهيئات القبطية ” الداعية إلى تحرير مصر القبطية من استعمار العروبة والإسلام ، وحتى أفضت هذه الأنشطة الطائفية المواكبة لهيمنة العولمة الأمريكية ، والمدعومة من منظمات وكنائس التحالف المسيحي , والمسيحية الصهيونية , والمحافظون الجدد إلى إصدار ” الكونجرس الأمريكي ” في أكتوبر 1999 لقانون ” الحريات الدينية الدولية ” , الذي فرض الحماية الأمريكية على الأقليات الدينية وخاصة في العالم الإسلامي ، وقنن لآليات فرض العقوبات الأمريكية على الدول التي لا ترضى عنها أمريكا في هذا المجال .
هذا هو ” الفعل الاستعماري ” في المسألة الطائفية ، وهكذا يتم اللعب بأوراق الأقليات الدينية والقومية ، ليتم استفزاز الأغلبية المسلمة فيتحول سلوكها من التسامح إلى التضييق ، ويحل التزمت والتعصب محل ” لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين ” .
مواجهة التحديات وإعادة بناء الثقة للمستقبل
بعد عرض الأسباب الطارئة التي تكدر صفو العلاقة بين المسلمين وأهل الذمة ، ومعرفة أن أخطرها على الإطلاق هو تدخل قوى الهيمنة الاستعمارية لاستغلال التصرفات غير المسئولة من غير الحكماء من الطرفين لتعميق النزعة الطائفية الانعزالية ، التي تعمل على إحياء اللغة القبطية على حساب اللغة العربية ، التي هي اللغة الوطنية والقومية والحضارية لأفراد الأمة كلها على اختلاف دياناتهم , أقدم فيما يلي خطوات مواجهة هذه التحديات وإعادة بناء الثقة للمستقبل :
الخطوة الأولى : البدء فورًا في إدارة حوار داخلي موضوعي صريح وشفاف بين ” الحكماء وعلماء الدين ” من الطرفين وهم كثيرون والحمد لله ، لفرز وتحديد المظالم والمطالب الحقيقية من الأوهام والأحاسيس الزائفة ، لقطع الطريق على الغلو الديني الذي تأججه القلة المتعصبة من الطرفين .
الخطوة الثانية : حل المشكلات الحقيقية التي تعاني منها الأقليات باعتبارها مشكلات الأمة وليس مشكلات للأقليات لأنهم جزء أصيل من الأمة .
الخطوة الثالثة : العودة إلى المنهج الإسلامي الأصيل الذي أنقذ أهل الديانات الأخرى من الإبادة ، وجعلهم جزء من الذات في أمة واحدة عبر التاريخ , والعودة إلى مبادئه في مداواة الجراح القائمة على الجدال بالتي هي أحسن ، والتماس العذر للمخالفين ، والتسامح والصفح والعفو عند الخطأ بدلاً من توسيع الجراح ، فإقالة العثرات أولى من تصيد الأخطاء .
وحتى يتم إنجاز هذه الخطوات بنجاح فعلى الأغلبية تحمل مسئولياتها في مواجهة هذه التحديات باعتبارها الجانب الأكبر عددًا وليس تميزًا ، كما أنها الأقدر على مداواة الجراح وبناء الثقة للمستقبل لأن هذه الأمور تمثل جزء من دينها وعقيدتها وسنة نبيها .
فعلى الأغلبية المسلمة أن تعلن حقوق أهل الذمة بصورة مفصلة ، وفي نقاط محددة وواضحة ، ودون انتظار لإنجاز الخطوات السابقة في مواجهة التحديات ، لأن الحقوق الواضحة لا تحتاج إلى حوار بشأنها وذلك لقوله تعالى
{ وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ
} فصلت 34 .
والأمر الآخر أن إعلان الحقوق سيزيل معظم الأوهام إن لم يكن كلها ، مما يساعد في إنجاز ونجاح خطوات مواجهة التحديات وإعادة بناء الثقة .
حقوق ” أهل الذمة ” غير المسلمين في بلاد الإسلام
بداية يجب توضيح معنى مصطلح ” أهل الذمة ” استكمالاً للحقائق وليستقيم الفهم لأن البعض يستهجن هذه التسمية ويعتبرها مذمومة وتوحي بالدونية والمعنى على العكس تمامًا ، فالمطلع على كتب الفقه الإسلامي سيجد أن العلماء قد اصطلحوا على وصف المواطنين في بلاد الإسلام من غير المسلمين ” بأهل الذمة ” بمعنى أهل العهد والأمان لأنهم يصيرون في ذمة محمد صلى الله عليه وسلم وفي ذمة المسلمين أي في عهدهم وأمانهم على وجه التأبيد .
ويؤيد حسن المعنى قول الإمام الأوزاعي عن أهل الذمة ” فإنهم ليسوا بعبيد ولكنهم أحرار أهل ذمة ” ، وقد فهم الإنجليزي ” روم لاندو ” معنى أهل الذمة فهمًا صحيحًا وعرف مراده الشريف فقال ” على نقيض الامبراطورية النصرانية التي حاولت أن تفرض المسيحية على جميع رعاياها فرضًا ، اعترف العرب بالاقليات الدينية ، وقبلوا بوجودها ، وكان النصارى واليهود والزرادشتيون يعرفون عندهم بأهل الذمة أو الشعوب المتمتعة بالحماية ” .
وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ظلم أهل الذمة حين قال ” من ظلم ذميًا ، أو كلفه فوق طاقته فأنا حجيجه ” رواه البيهقي .
كما جاء في وصية الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين طعن من أبو لؤلؤة المجوسي حيث قال ” أوصى الخليفة من بعدي بأهل الذمة خيرًا ، أن يوفى لهم بعهدهم ، وأن يقاتل من ورائهم ، وأن لا يكلفوا فوق طاقتهم ” .
وحين يقارن أي منصف مبادئ حقوق الإنسان التي تضمنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، بحقوق الإنسان في الإسلام يتبين له سبق الإسلام عما تفتقت عنه أفكار البشر في مبادئ حقوقهم ، من حيث الشمول والسعة والعمق ومراعاة حاجات الإنسان الحقيقية والرحمة ، لأن الإسلام دين رحمة للعالمين مصداقًا لقول ربنا
{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } الأنبياء 107
وفيما يلي أبرز الحقوق العامة ” لأهل الذمة ” :
1. حقهم في حفظ كرامتهم
كرم الله تعالى الإنسان بصفة عامة مسلمًا وغير مسلم فقال تعالى
{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً
} الإسراء 70 .
ولا يوجد دين يوازي الإسلام في حفظ كرامة الإنسان فهو يؤكد على أن أصل البشر واحد وأنهم متساوون في الإنسانية والحقوق ، قال تعالى
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ
} الحجرات 13 .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع ” يا أيها الناس إن ربكم واحد ، وإن أباكم واحد ، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ، ولا لأعجمي على عربي ، ولا لأحمر على أسود ، ولا أسود على أحمر ، إلا بالتقوى ” مسند الإمام أحمد .
ومن المحافظة على كرامة غير المسلمين حقهم في مراعاة مشاعرهم بعدم تسفيه معتقداتهم قال الله تعالى
{ وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
} الأنعام 108 .
قال الإمام القرطبي ” لا يحل لمسلم أن يسب صلبانهم ، ولا دينهم ، ولا كنائسهم ، ولا يتعرض إلى ما يؤدي إلى ذلك ، لأنه بمنزلة البعث على المعصية ” .
2. حقهم في حرية المعتقد وحرية ممارسة شعائرهم
لقد تكفل الإسلام لأهل الذمة حرية الاعتقاد والتدين فلكل ذي دين دينه لا يجبر على تركه والتحول إلى غيره لقوله تعالى
{ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
} البقرة 256 .
ولقوله تعالى { وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ
} يونس 99 .
هنا تعدى الأمر إقرار حقهم في حرية المعتقد , إلى حرية ممارسة شعائرهم والمحافظة على أماكن عبادتهم قال تعالى ” الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ” الحج 40 .
3. حقهم في التزام شرعهم
يحق لغير المسلمين إقامة حياتهم الاجتماعية ” الأحوال الشخصية ” وفق تشريعاتهم الخاصة كالزواج والطلاق والميراث ونحو ذلك ولهم محاكمهم الكنسية الخاصة بهم في هذا الشأن , ولا تطبق عليهم العقوبات في فعل ما يرونه حلالاً في شرعهم ، كشرب الخمر وأكل لحم الخنزير .
4. حقهم في العدل
الإسلام دين العدل ، والله سبحانه وتعالى جعل الموازين الدقيقة ليقوم الناس بالقسط ويحذروا من الوقوع في الجور والظلم قال تعالى ” وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ” الرحمن 7 ـ 9 .
كما أمرهم بالقسط في كل حال حتى لو كان القيام بالقسط فيه ضرر على النفس أو على أقرب الأقربين كما قال تعالى ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ” النساء 135 .
وكما خيرهم بالتحاكم إلى شرائعهم أكد على المساواة بينهم وبين المسلمين في حق الحصول على العدل إذ تحاكموا إلى شريعة الإسلام قال تعالى ” فَإِن جَاؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ” المائدة 42 .
5. حقهم في حفظ دمائهم وأموالهم وأعراضهم
الإسلام يحفظ للإنسان الحقوق الأساسية في الحياة التي لاغنى له عنها وهي : حفظ النفس , والدين , والمال , والعرض , والعقل , وهي حقوق وحرمات معصومة لا تنتهك مثل : القتل بغير حق شرعي كما لا يصح التعدي على ماله ، ولا انتهاك عرضه لقوله تعالى ” وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ” الأنعام 151 .
كما روي أن رجلاً من المسلمين قتل رجلاً من أهل الذمة ، فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ” أنا أحق من أوفى بذمته ” ثم أمر به فقُتل .
وروي أن أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه أتى برجل من المسلمين قتل رجلاً من أهل الذمة ، قامت عليه البينة ، فأمر بقتله ، فجاء أخوه فقال : إني قد عفوت عنه فقال : فلعلهم هددوك قال : لا ، ولكن قتله لا يرد على أخي ، وعوضوا لي ورضيت ، قال : أنت أعلم ، من كانت له ذمتنا فدمه كدمنا ، وديته كديتنا .
كذلك لغير المسلمين حق حفظ أموالهم ، فتقطع يد سارقها ، ويعزر مغتصبها ، ومن استدان منهم شيئًا فعليه رده ، ويعاقب المماطل فيه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ” ألا لا تحل أموال المعاهدين إلا بحقها ” مسند الإمام أحمد .
ولهم حفظ أعراضهم ، فيجب كف الأذى عنهم ، وتحرم غيبتهم كما قال ابن عابدين ” إنه بعقد الذمة وجب له مالنا ، فإذا حرمت غيبة المسلم حرمت غيبته ، بل قالوا : إن ظلم الذمي أشد ” .
6. حقهم في الحماية من الاعتداء
من الحقوق اللازمة التي لا يصح التهاون بها ، أنه تجب على الدولة الإسلامية حماية غير المسلمين في أراضيها من أي عدو خارجي يريدهم بسوء ، ويلزم الدفاع عنهم مما يؤذيهم ، والقتال دونهم ، وفك أسراهم .
7. حقهم في المعاملة الحسنة
الأصل في التعامل مع غير المسلمين أن تكون معاملتهم حسنة ، بل أن يحظوا بالبر والإحسان لقوله تعالى ” لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ” الممتحنة 8 .
والبر في الآية أعظم من المعاملة الحسنة قال الإمام القرافي في بيان المراد به : هو ” الرفق بضعيفهم ، وسد خلة فقيرهم ، وإطعام جائعهم ، وكساء عاريهم ، ولين القول لهم على سبيل التلطف لهم والرحمة ، لا على سبيل الخوف والذلة ، واحتمال أذيتهم في الجوار مع القدرة على إزالته لطفًا منا بهم ، لا خوفًا ولا طمعًا ، والدعاء لهم بالهداية ، وأن يجعلوا من أهل السعادة ، ونصيحتهم في جميع أمورهم ، في دينهم ودنياهم ، وحفظ غيبتهم ، إذا تعرض أحد لأذيتهم ، وصون أموالهم وعيالهم وأعراضهم وجميع حقوقهم ومصالحهم ، وأن يُعانوا على دفع الظلم عنهم ، وإيصالهم إلى جميع حقوقهم …… إلخ ” .
والمعاملة الحسنة ليست مجرد كلامًا يقرأ فحسب ، بل هو سلوك عام لجميع المسلمين ودراسة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم تنبئ عن صفحات مشرقة من حسن تعامله مع غير المسلمين ، فقد كان له جيران من غير المسلمين ، وكان يداوم على برهم ، والإهداء لهم ، وقبول هداياهم ، وكان يعود مرضاهم ، ويتصدق عليهم ، ويتعامل معهم في التجارة .
8. حقهم في التكافل الاجتماعي
من الحقوق الواجبة لغير المسلمين العاجزين عن الكسب المشروع ، أن تنفق عليهم الدولة الإسلامية من بيت المال ويأثم الحاكم لو قصر في إيصال هذا الحق لأهله .
وهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يصرف معاش دائم من بيت مال المسلمين ليهودي مستشهدًا بقول الله تعالى ” إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ” التوبة 60 ، وهو بذلك جعله من مساكين أهل الكتاب .
وكتب أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى عامله على البصرة ” انظر من قبلك من أهل الذمة من كبرت سنه ، وضعفت قوته ، وولت عنه المكاسب ، فأجر عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه ” .
الحقوق التي ذكرت على سبيل المثال لا الحصر ، وذكرتها لأن حولها بعض القصور في الفهم ، ولكن هناك حقوق أخرى معروفة ولا تحتاج لذكر لأنها بدهيات مثل : حقهم في التعليم ، وحقهم في التكسب والتجارة ، وحقهم في السكنى والتنقل ، وحقهم في حرية الفكر ، ونحوها من الحقوق الشائعة .
بعد كل ما تقدم بقي سؤال أخير هو هل الجنة المزعومة لحقوق المواطنة أفضل من حقوق أهل الذمة ” غير المسلمين في بلاد الإسلام ” ؟
سأترك الإجابة عن هذا السؤال لكل إنسان حسب تفكيره , وأعلم أن الاجابات ستكون متباينة بسبب اختلاف طريقة التفكير , ولكن مهما تعددت الاجابات فستظل هناك حقائق لايمكن لأي إنسان اغفالها , وهي أن حقوق أهل الذمة في الإسلام أعم وأشمل من حقوق المواطنة بشهادة الكثير من المستشرقين الغربيين ورجال الدين المسيحي أنفسهم .
كما أن حقوق أهل الذمة في الإسلام لها ميزة جوهرية لا يمكن أن تتوافر في المواطنة وهي أنها وحي إلهي ورد في القرآن الكريم أو قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى ، وليست قوانين وضعية من البشر ، يمكن أن تلغى ، أو تبدل بأمر حاكم أو أكثرية عددية ديموقراطية أو غير ديموقراطية وإنما هي واجبة النفاذ في كل زمان ومكان ، يأثم معطلها والمقصر بها لأنها من الدين .
لذا فهي حقوق ثابتة لا تتغير حتى قيام الساعة لقوله تعالى ” وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُّبِينًا ” الأحزاب 36 .
ليس هذا فحسب بل إن بعض الدول العظمى تسلك طريق الانتقاء فيها ، فتأخذ ما يناسبها من القوانين الدولية ، وتدع ما لا يناسبها حسب القوة التي تتمتع بها هذه الدول في النظام العالمي الجديد .
فحقوق أهل الذمة المفترى عليها هي الضمانة لغير المسلمين في الحصول على حقوقهم كاملة بما في ذلك حقهم في مخالفة الأغلبية المسلمة في دينها وشريعتها , دون أن يحق للأغلبية العددية المسلمة استخدام الديموقراطية في الغاء هذه الحقوق أو تعديلها .
في الختام أسأل الله أن أكون وفقت في عرض الموضوع بطريقة منهجية صحيحة تشتمل على الحقيقة , والصراحة والحيادية ، وأن تكون مساهمة صادقة في إطفاء نار الفتنة الطائفية بين أقباط مصر من المسلمين والمسيحيين .
والله الهادي إلى سواء السبيل .