عندما تبكي الأشجار

منذ زمن بعيد مضى كان هناك شجرة كبيرة مثمرة , وكان هناك طفل صغير يلعب حول هذه الشجرة ويتسلق أغصانها ويأكل من ثمارها ثم يغفو قليلاً لينام في ظلها , وكان من شدة ارتباطه بها يحلم أن يكلمها وتكلمه ويسألها عن كل ما يعن له وتجيبه ويستنصحها فتنصحه.

 واستمرت العلاقة هكذا لسنوات عديدة , ولا أدري هل كان الطفل يحب الشجرة أم أنه فقط يلهو ويلعب ويأكل من ثمرها ؟ ولكن ما أعلمه بيقين هو أن الشجرة كانت تحب الطفل بكل تأكيد وتبرهن على حبها بالسماح له بالتسلق على أغصانها وتمنحه ثمارها وتحميه من حرارة الشمس بظلها .

 مر الزمن وكبر الطفل وأصبح شاباً . وفي يوم من الأيام جاء الشاب وجلس في ظل الشجرة مهموماً , فقالت له الشجرة : لماذا لم تعد تلعب حولي وتأكل من ثمري كما كنت تفعل من قبل ؟ فأنا لا أحب أن أراك مهموماً وحزيناً ! فأجابها الشاب : لم أعد ولداً صغيراً لألعب من حولك وأكل من ثمرك , فقد كبرت وأصبح لي متطلبات أخرى وعلي التزامات كثيرة وأحتاج إلى المال لأحققها . فقالت الشجرة : لا يوجد معي مال لأعطيه لك , ولكن يمكنك أن تأخذ ثماري كلها لتبيعها وتحصل على المال الذي تريد . فتسلق الشاب الشجرة وجمع كل الثمار التي عليها ونزل سعيداً , وذهب ليبيعها ونسى – لا بل لم يكن مهتماً – أن يشكر الشجرة على صنيعها معه وذهب حتى دون أن يسلم عليها , وطال الغياب والشجرة في غاية الحزن.

 وذات يوم رجع الشاب للشجرة ولكنه لم يعد شاباً بل أصبح رجلاً , وكانت الشجرة في منتهى السعادة لعودته ظناً منها بأنه عاد إليها ليشكرها بعد أن عرف فضلها عليه . قالت له : تعال اجلس معي قليلاً , فأجابها قائلاً : ليس لدي وقت لأضيعه في الاستماع إلى نصائحك التي أعرفها , فقد أصبحت رجلاً وسأكون عما قريب مسئولاً عن أسرة وأولاد , وأحتاج الى بيت ليكون لهم سكناً ومأوى , ونفذ المال , فماذا أصنع ؟ فقالت الشجرة : أنت تعلم أني لا أملك بيتاً لأمنحك إياه ولكن يمكنك أن تأخذ جميع أغصاني وأفرعي لتبني لك بها بيتاً . تهلل الشاب لذلك وأخذ يقطع أفرع الشجرة وهو يشعر بسعادة غامرة , وتركها وانصرف كعادته دون شكر أو سلام .

 ثم عاد إليها بعد فترة غير بعيدة ليخبرها أنه سيتزوج ليكون له أسرة وأولاد بعد أن أصبح له بيت , فسعدت الشجرة بهذا الخبر كما لم تسعد من قبل , ولم لا والفرح فرحها هي ؛ فقد تم الإعداد له من ثمن ثمرها والبيت قد جهز من أغصانها وفروعها , كما أن زواجه سيجعله يهدأ ويستقر , وعندما يرزق بأولاد سيحضرهم ليلعبوا حولها من جديد . وهكذا عاشت الشجرة للحظات قليلة في أحلام جميلة ممتدة لسنوات طويلة . وحين أفاقت من حلمها اللحظي قالت له بكلمات حانية : أنت مقبل على حياة جديدة وأريد أن أنبهك بشأن بعض الأمور والتصرفات التي تصدر عنك والتي لطالما أخبرتك أنها تسبب لك ولمن أحبوك المتاعب لكي تتجنبها حتى تسعد في حياتك الجديدة , ولا تنسى أني أعرفك منذ كنت طفلاً وأعرف طباعك , كما أن لدي خبرة طويلة في الحياة …. لم يدعها تكمل كلامها وقاطعها غاضباً قائلاً في صيغة آمرة : أنا لا أحب أن يتدخل أحد في حياتي ولا أحتاج إلى نصائح , وعليك أن تسمعيني .. ما حضرت إليك إلا لأدعوك لزواجي حتى تستعدي لحضوره فلا أريد أن يسأل الناس أين الشجرة , ولأخبرك أني أريد مركبا لأبحر به حيث حريتي بلا مسئولية أو قيود لكي أحقق طموحي بعيداً عنك , فقد كرهت تذكيرك لي بالمسئولية كلما حضرت إليك . قالت الشجرة دون تردد وبفطرة من يعطي بلا حدود رغم الألم الذي يعتصرها من الطعنة التي تلقتها منه : يمكنك أخذ جذعي لبناء مركبك , وبعدها أبحر به أينما تشاء لتحصل على سعادتك الموهومة . لم يتريث لبرهة أو يفكر للحظة وأخذ يقطع جذع الشجرة دون رحمة أو شفقة وكأنه ينتقم من عدو لدود , ولم يدري أنه حينما قطع الجذع قطع معه كل معنى جميل كان في الماضي . وصنع مركبه وسافر مبحراً إلى البعيد المجهول . ومضت السنون , وأخيراً عاد بعد غياب في يوم ككل أيام عودته ناقماً متذمراً . فاستقبلته الشجرة في ألم وحسرة وابتدرته قائلة : معذرة يا هذا , لا يوجد عندي ثمر لأضيفك به أو جذع لتجلس عليه أو أي شيء لأمنحك إياه أو أساعدك به , وأنا أعلم أنك دائما تأتيني متعجلا وتريد أن تحصل على ما تريد , فأنا أوفر عليك الوقت وأخبرك أنه ليس عندي ما أعطيه لك لتسعد به , واستطردت – وهي تبكي – قائلة : لم يعد لدي إلا جذور ماتت منذ زمن . لكنه لم يتركها تبكي وكأنه استكثر عليها حتى البكاء الذي قد يريحها , فقال لها مقاطعاً بصوته المرتفع : عدت إليك اليوم وقد أشقتني وأتعبتني الحياة , وأحتاج إلى الراحة ولا أريد أن يزعجني نحيبك . فكتمت الشجرة بكاءها داخلها ولسان حالها يقول له إن الحياة لا تشقي ولا تسعد أحد , ولكن الذي يسعد ويشقي هو الله عطاءاً أوعقاباً على الأقوال والأفعال التي تصدر من الإنسان , وهكذا أنت دائماً تريد أن تلقي بتبعية تصرفاتك على غيرك , فإن لم تجد من تلقيها عليه تنقم على الحياة ذاتها . ثم نظرت إليه وقالت : إن جذوري ذات الشعور الميتة هي أنسب مكان لك للراحة , انزل واجلس معها تحت لعلك تجد الراحة . قالتها الشجرة والدموع تملأ عينيها ليس حزناً على نفسها فهي مخلوقة للعطاء , حتى حينما تقذف بالحجر تلقي بالثمر , وإنما قالتها حزناً عليه وعلى ما ضاع من عمره وكان يمكنه أن يستفيد منه لغده وأن يجنب نفسه ومن حوله الحزن ويعيش في الحياة معهم في سعادة وهناء . كما كان يستطيع أن يضيف عمراً جديداً إلى عمره – بإضافة تجارب وخبرات الآخرين الذين يحبونه ممن هم حوله إلى تجاربه وخبراته – , ثم تنهدت عميقاً وقالت : آآآآآآآآآه لو كان يسمع أو يعتبر !!

 هل تعرف من هي هذه الشجرة ؟

 إنها أبوك يا ولدي .. أبوك الذي يعيش في الحياة معكم ومع سائر الناس كعابر سبيل , محاولاً أن يترك لكم وراءه أثراً جميلاً عند كل من تعامل معه لتسعدوا بذكراه , يعيش معكم مستعيناً بالله ويحسن إليكم , فقير إلى الله يتواضع لكم , يعيش معكم كمسئول عنكم يوجهكم إلى كل خير ويدافع عنكم ويحميكم من كل شر, ويعيش معكم كطبيب يعطيكم الدواء المر فتكرهونه ومايريد لكم إلا الشفاء , وتتعاملون معه بتأفف وجفاء وهو يحنو ويشفق عليكم ……….. فإلى متى ؟

 تنويه : هذه القصة مستوحاة من قصة " الطفل وشجرة التفاح " المنشورة على الإنترنت . أما الوقائع والأحداث فإنها حقيقية شاهدتها رأي العين وعايشتها في الحياة من حولي وكانت كالصدمة بالنسبة لي , فأردت أن أنقلها وأوثقها كتابة لعل من يقرأها يستفيد من العبر التي فيها ويصلح ما أفسد , فينقص عدد الشجر الذي يبكي واحداً . فيا آباء ويا أمهات كلنا تلك الشجرة وهؤلاء هم أبناؤنا ولكن بدرجات متفاوتة إلا من رحم الله , فلا تغفلوا عن الدعاء لهم بالهداية .

عبد الفتاح محمد صلاح

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *